كيف نعلّم كيفيّة التفكير في العلوم؟

د. ايمان عبّاس

تعليم كيفيّة التفكير في العلوم Teaching How  to think in science

   للعلوم تحدّيّات كثيرة ومقاربات متنوّعة بحسب المصادر والاتّجاهات التي تتناولها. فالعلم ليس مجرّد مجمومة متراكمة ومنفصلة من الحقائق العلميّة تمَّ تنظيمها في فروع علميّة معيّنة مثل الفيزياء والكيمياء وعلوم الحياة. وإنّما العلم جسم من المعرفة العلميّة المنظّمة التي أمكن التوصل إليها باستعمال المنهجيّة العلميّة التي تقوم أساساً على الاستقصاء والاستكشاف والبحث في الظواهر الطبيعيّة ( عطا الله ،2002) .

   فمن وجهة وليام لورانس براج William Lawrence Bragg " الشيء المهم في العلم ليس الحصول على حقائق جديدة بقدر ما هو اكتشاف طرق جديدة للتفكير فيها " ( Toomey, Article : “ Thinking Scientifically,2011) . فالتفكير العلّميّ هو نوع من البحث عن المعرفة الذي يتضمّن البحث عن معلومات مقصودة، بما في ذلك طرح الأسئلة، واختبار الفرضيات، وإجراء الملاحظات، والتعرّف على الأنماط، والتوصّل إلى الاستدلالات . (Kuhn,2002,Morris and others,2012)

 

    وهذا العلم، نتعرّف إليه في مدارسنا من خلال المعارف العلميّة التي تمَّ إدراجها في صلب المناهج. وممّا لا شك فيه أنَّ هذه المعارف قد خضعت للكثير من التجارب المختبريّة قبل أن تصبح حقائق علميّة يتعلّمها المتعلّمون. ولكن المشكلة تقع عندما نقوم بتدريس هذه المعلومات وكأنّها مجرّد معلومات للحفظ فحسب ونتجاهل جانب التفكير النقدي الذي هو في أساس بناء الحقائق العلميّة.

    وفي هذا المجال، يربط الفيلسوف الفرنسي غاستون بشلار ( Gaston Bachelard   )1938 بين الروح العلميّة والسعي لتنمية المعرفة وتحسين القدرة على التساؤل : " الإنسان الممتلىء بالروح العلميّة يرغب في أن يزيد معرفته بهدف أن يتمكن من متابعة التساؤل بشكل أفضل". (Bachelard,1993,p16)
     والعلم مجال رحب لأن يتساءل فيه المتعلّم عن الكثير من الأمور المتعلقة بالمادّة وتحوّلاتها وتثير لديه الفضول وبخاصّة الفيزياء. وحين نقول تساؤلاً فإنّنا ندرك أنَّ ذلك يتطلّب تفكيراً في الموضوعات المطروحة للبحث. إذ أنَّ الفضول العلّميّ يمكن أن يُحفّز سلوك البحث عن المعلومات ممّا يؤدي إلى طرح الأسئلة وبالتالي تنشيط المعرفة السابقة ذات الصلة ودعم أعمق للتعلّم. فالفضول وطرح الأسئلة والبحث عن المعلومات والمعالجة المعرفيّة للمعلومات والتعلّم كلّها عمليّات مترابطة تدعم بعضها بعضًا.(  Oudeyer and others,2016)

فالعمليّة البنّاءة للبحث عن المعلومات لتوليد تفكير جديد أو معرفة جديدة لا تكون لها فعاليّة إلا عندما تكون استجابة للفضول وليس مجرّد تلقي معلومات. (Jamie.J.Jirout, ,2020)

     فالمناهج التعليميّة الأمريكيّة الجديدة تجعل المتعلّم أكثر ذكاءً.( Scharferman,1991) ولتحقيق هذا الهدف، توصي تلك المناهج بتصويب كل المواد التعليميّة نحو بناء التفكير العلّمي الناقد عند المتعلّمين. فتدريس المواد العلميّة عندها يتم عن طريق الاستقصاء أي التحريّ عن الحقائق العلميّة.

وهكذا يعيش المتعلّم حالاً فكريّة متواصلة. ففي البداية، عليه أن يجمع المعلومات عن الاشكاليّة المطروحة، وعليه أن يلاحظ إن كان ما يجمعه ينسجم مع الإشكاليّة، لينتقل بعدها إلى وضع الفرضيّات بهدف إيجاد حل للإشكاليّة. بعد ذلك، عليه أن يتحقّق من صحة الفرضيّات وذلك عن طريق المختبر أو من خلال إجراء بحث وثائقيّ بحسب طبيعة المسألة المطروحة.

   وبعد استخراج النتائج وتحليله وتفسيرها، فإمّا يجد أنَّ الفرضيّات كانت صحيحة وبالتالي يكون قد وجد حلاً للإشكاليّة وإمّا يكتشف أنَّ الفرضيّات كانت خاطئة وعندئذ يضع فرضيّات جديدة ويعود إلى المنهجيّة نفسها حتى يكتشف الحقيقة. وفي نهاية الأمر يأتي الحكم علميّاً بكل ما للكلمة من معنى.

وما يجري على صعيد المواد العلميّة، يجري أيضاًعلى مستوى كل المواد الأخرى وهكذا تنمو الحال التفكيريّة عند المتعلم الامريكيّ يوماً بعد يوم. وهذه الطريقة تجعل من العلم مجالاً للتفكير عند المتعلّمين.

قد لا نخطىء إذا قلنا بأنَّ التفكير العلّميّ يتضمّن الملاحظات والفرضيّات والتجارب والنتائج وصولاً إلى الحقيقة العلميّة. ولكن، إذا ألقينا الضوء على ما حققه العلم من تطوّر سريع في أمور الطيران وغزو الفضاء والطب وغيره، نرى  أنَّ التفكير العلّميّ ما يزال يتابع الاكتشافات تدريجيّاً ويسعى إلى معرفة سر هذا الكون وسر الحياة.

وما نريد قوله هنا، إنَّ العلم لا يمكن حصره في إجراء بعض الأبحاث بشأن بعض المسائل التي هي في متناول الإنسان في حياته اليوميّة بل له اهتمامات كونيّة تتعدّى مشاكل الإنسان اليوميّة.

ومهما اختلفت الأبحاث، فإنَّ الباحثين يسعون دائماً من خلال مرونتهم إلى الحقيقة العلميّة والتحقّق من جهة الفرضيّات المطروحة. وفي الأمر هذا لا بأس من الوقوع في الأخطاء في أثناء البحث العلميّ. فالاعتراف بالخطأ يؤدي إلى تصويب العمل ويعطي صدقيّة أكبر للطريقة العلميّة التي يتم العمل بموجبها. وهكذا يمكن اتّباع التفكير العلّميّ الناقد الذي يفتش عن الوصول إلى الحقيقة في الأمر الذي يتم البحث فيه.

يرى الباحث التربوي الأمركي ( أرتور كوستا2001) أنَّ هناك مفاهيم خاطئة وشائعة عند الناس ومنها : " أنَّ الذكاء هو شكل من أشكال الموهبة، وهو ثابت، وهو كينونة تظهر من خلال أداء المرء الذي أبلى حسناً، والذي يمتلك مهارة ما، والعكس صحيح " ( Costa ,2001  )

لا يوافق كوستا على هذا الاعتقاد الشائع.

 في الواقع، إذا سلمنا جدلاً أنَّ هذا الأمر صحيح، فمن المفترض أن يقوم أي انسان موهوب بمهته بسهولة تامة من غير أن يحتاج إلى بذل جهد كبير، وبالتالي فإنَّ الإنسان الذي لا يملك الذكاء مثلاً، فهو لن يتقدّم أبداً في نشاطه العلميّ . ألا يؤدي اتباعنا لهذا الرأي إلى كوارث تربويّة في حياة متعلمينا وإلى ضرب النظام التعليميّ برمته؟.

لقد أثبت الدّراسات التي قام بها الباحث التربوي الأميركيّ هوارد ( Howard,1995 )الواردة عند الباحث التربويّ الأميركيّ أرثور كوستا ( Arthur Costa   ) " أنَّ الذكاء يتطوّر وينمو وأنّه بالامكان تنمية المواهب من خلال بذل الجهود الحثيثة، وهكذا يمكن للأفراد أن ينموا ذكاءهم " ( Arthur Costa,2001)

وهذا يعني أنَّ المسألة ترتبط بطريقة التعليم، فإذا ارتكزت على التفكير الناقد، فإنَّ المتعلّم سيتعلّم كيف يلاحظ وكيف يبني فرضيته ويتعلّم الكثير من خلال التجريب، وبالتالي كيف يستخرج النتائج ويتحقّق من صحة الفرضيّات .

لهذا وجب على المعلّمين تقدير ما يصدر عن متعلّميهم من مواقف إيجابيّة وأن يركّزوا عليها ويفتحوا أمامهم المجالات لتحقيق المزيد من الإنجازات.

وأكثر ما يعزز نجاح المتعلّم هو اكتسابه لمهارة التفكير العلّميّ الناقد. ولعلَّ هديّة يقدمها المعلّمون لمتعلميهم هي تدريبهم على هذا التفكير من خلال المسائل العلميّة التي يطرحونها عليهم التي تقود إلى المنهجيّة العلميّة وتنميّة روح البحث والفضول العلّميّ لديهم.

ويطلق أندريه جيوردان ( Andre Gordan ) فكرة جديدة إذ يؤكّد " أنَّ السؤال هو أهم من الجواب في هذه المنهجيّة العلميّة، لأنَّ السؤال يحرّك الاستقلاليّة  الذاتيّة في تفكير المتعلم "( Andre Giordan,1994,249) والمقصود هنا أنَّ السؤال يترافق مع تساؤلات أخرى. وهذا يتطلّب ربط الأمور بعضها بالبعض الآخر وضرورة استنباط الحلول الملائمة، فضلاً عن وضع خطة عمل مُحكمة وصولاً إلى الرد على الاشكاليّة المطروحة.