وظائف العنوان النَّصّيّ

وظائف العنوان النَّصّيّ

د.أحمد شحوري

العنوان - كأيّ نصّ – مرسلةٌ تتمتَّع بموقعٍ خاصّ لأداء وظائف فريدة في سيميائيَّة الاتّصال الأدبيّ، مرسلةٌ تفترض مرسِلًا (مُعنوِنًا) يبعث بها إلى مرسلٍ إليه/ إليهم (معنوَنًا إليه/ إليهم). وقد تميَّز مجال البحث في الوظيفة العنوانيَّة بالتّنوّع حسب تناول الباحثين إيّاه؛ إذ اقترح "جيرار جينيت" أربع وظائف عنوانيَّةٍ تتمثَّل في الوظيفة التَّعيينيَّة (F. Désignation)، والوظيفة الوصفيَّة (F. Descriptive)، والوظيفة الإيحائيَّة (F. Connotative )، والوظيفة الإغرائيَّة (F. Séductive). أمّا في السّاحة النَّقديَّة العربيَّة، فإنَّ النّاقد السّوري "خالد حسين حسين" - وعلى غرار ما اقترحه "ياكبسون" من وظائف ستّ تُؤدّيها اللُّغةُ ضمن عمليَّة الإرسال الأدبيّ – قد صنَّف ستَّ وظائف يؤدّيها العنوان (بوصفه المرسلة الصَّغرى) بحسب علاقته بطرفي الإرسال وبالنَّصَّ الكبير (المرسلة الكبرى). وتتمثَّل هذه الوظائف السّتّ في الوظيفة القصديَّة، والتَّأثيريَّة، والتَّفكيكيَّة، والأنطولوجيَّة، والإحاليَّة، والوظيفة الشّعريَّة. فما هي هذه الوظائف؟ وكيف تجلَّت في بنيَّة العنوان النَّصّيَّة؟

الوظيفة التَّعييّنيَّة أو الأنطولوجيَّة: تُعدُّ الوظيفة التَّعيينيَّة – لدى "جينيت" - وظيفةً إلزاميَّةً في العنونة لضرورتها في تعيين اسم الكتاب، وتحديد هُويَّته، فهي من شأنها تعريف الجمهور (المعنوَن إليهم) بالكتاب. أمّا النّاقد "حسين" فيُسمّيها الوظيفة الأنطولوجيَّة، ويرى أنَّها تُمثّل علاقة العنوان بالنَّصّ؛ فتبعًا لها فإنَّ العنوان يَهَبُ "النَّصَّ" هُويَّته الأنطولوجيَّة ويمنحه مكانه المختلف في فضاء التَّلقّي الأدبيّ، لأنَّه "يُخرجه من العماء إلى فضاء التَّمييز والاختلاف". إذ إنَّ تسمية الكتاب بهذا العنوان دون غيره تضمن له التَّعيين والتَّحديد اللَّذين يُوفّران له حضورًا مغايرًا وفق آليَّة الاختلاف الَّتي تُميّزه من العناوين الأخرى؛ وبذلك يحتفظ النَّصُّ لنفسه بالحضور والظّهور وإلّا سيكون مصيره النّسيان والاحتجاب حتّى إنَّ "جان كوهين" رأى أنَّ "العنوان يُمثّل المسند إليه أو الموضوع العامّ وتكون كلُّ الأفكار الواردة في الخطاب مسنداتٍ له، إنَّه الكلُّ الَّذي تُكوّن هذه الأفكارُ أجزاءَهُ".

الوظيفة الوصفيَّة أو الإحاليَّة: تتمثَّل الوصفيَّة – عند جينيت - في وصف النَّصّ إمّا موضوعاتيًّا وإمّا إخباريًّا، أي وصفًا لموضوع النَّصّ أو إخبارًا بالجنس الأدبيّ للنَّصّ. ولذلك ينبثق منها نمطان من العناوين هما: العناوين الموضوعاتيَّة الَّتي تصف محتوى النَّصّ وصفًا قد يكون مباشرًا من غير تمويهٍ، أو وصفًا مُموَّهًا باعتماد المجاز المرسل والكناية المتعلّقة بموضوعٍ لا يتموقع فيه الحديثُ كثيرًا وأحيانًا يكون هامشيًّا، أو باعتماد النّظام الاستعاريّ؛ والعناوين الإخباريَّة الَّتي تُعيّن الجنس الأدبيَّ للنَّصّ من قبيل: "قصائد أولى"، "مذكّرات دجاجة"... أمّا الوظيفة الإحاليَّة – لدى "حسين" - فتُماثل الوظيفة الوصفيَّة بنمطها الموضوعاتيّ، فتبعًا لها "يُمثّل العنوان إعلانًا عن محتوى النَّصّ ومضمونه" من خلال إحالته عليه. انطلاقًا من ذلك نجد أنَّ عنوان الكتاب الأصليّ (ذلك الرَّجل أبي) يُحقّق الوظيفة الإحاليَّة أو الوصفيَّة بنمطها الموضوعاتيّ، في حين يغيب النَّمط الإخباريّ، غير أنَّ تلك الإحالة تبقى جزئيَّة – إذا لم نُعمل التَّأويل لاستنباط بنيةٍ دلاليَّة كبرى – لأنَّها إحالةٌ تكتفي بأنْ تُحيل على بعضِ المضمون وليس كلَّه.

الوظيفة الإيحائيَّة أو الشّعريَّة: يكون العنوان فيها ليس "كشّافًا للمعنى وإنَّما هو له كثّافٌ، إذ يقوم على توليده في ذهن القارئ أكثر من قيامه على توضيحه، فليست غايته البيان والتَّبيين وإنَّما توليد المعنى من رحم النَّصّ". وتتحقَّق الوظيفة الشّعريَّة بالتَّركيز على المرسلة العنوانيَّة بحدّ ذاتها بمعزلٍ عن أيّ غايةٍ نفعيَّةٍ خارجها، إذ يكتسب العنوان بفضلها طاقةً إيحائيًّة جماليَّةً تقوم على خرق اللُّغة المألوفة المتوقّعة؛ ولذلك "تغدو نصّيّته أكثر قوَّةً على إخراج نصّه من لعبة الثّنائيّات المتضادَّة، ليعتاش على تخوم اللّا "حسم" ولا نهائيَّة التَّأويل".

الوظيفة الإغرائيَّة أو التَّأثيريَّة: الوظيفة الإغرائيَّة – بحسب "جينيت" - تُعدُّ الوظيفة المحفّزة على الشّراء و/ أو القراءة، فبفضلها يقوم العنوان بوظيفة فتح شهيَّة القارئ (La Fonction Apéritive) من خلال فعل التَّشويق (Suspense) حسب ما يرى "رولان بارت". ولذلك رأى "ليو هوك" أنَّه: "إذا كان العنوان جيّدًا فإنَّه يُساهم بصفةٍ معتبرةٍ في الرّواج التّجاريّ للنَّصّ". أمّا الوظيفة التَّأثيريَّة – حسب "حسين" - فتنبثق من علاقة العنوان بالقارئ، حيث يتموقع ذلكُ العنوان "لجذب الجمهور المتلقّي" في فضاء الإغواء الضّمنيّ ممارسًا كلَّ أساليب الإشهار والإغراء "بوصفه عتبةً للمفاوضات بين القارئ والنَّصّ".

في حين تنبثق الوظيفة التَّفكيكيَّة من علاقة القارئ بالعنوان على عكس التأثيريَّة بوصفها "آليَّةً ذات طابع تحريضيّ تنطوي على فعل القراءة". إذ بفضل العنوان يُمكن "تفكيك النَّصّ إلى بنياته الصُّغرى والكبرى قصد إعادة تركيبه من جديدٍ: نحوًا، ودلالةً، وتداولًا، من الأسفل إلى الأعلى، ومن الأعلى إلى الأسفل، ومن الدّاخل إلى الخارج".

الوظيفة القصديَّة: يرى "حسين" أنَّ القصديَّة إنَّما تنشأ من علاقة الكاتب/ المعنوِن بالعنوان الَّذي "يُعدُّ مرآةً لمقصديَّة الكاتب، فهو ذو خلفيَّةٍ ذاتيَّةٍ تُحيل إلى نواياه وانتماءاته السّوسيو ثقافيَّة إضافة إلى الأيديولوجيّة". وهو يلحظ غيابها لدى "جينيت" في مقابل حضورها المركزيّ في خطاطة "ياكبسون" ضمن مسمّى "الوظيفة الانفعاليَّة" الَّتي تُركّز على المُرسِل، وتهدف "إلى أن تُعبّر بصفةٍ مباشرة عن موقف المتكلّم تجاه ما يتحدَّث عنه. وهي تنزع إلى تقديم انطباعٍ عن انفعالٍ معيَّنٍ صادقٍ أو خادعٍ"، غير أنَّ "ياكبسون" ربطها بـ"التَّواصل اللَّفظيّ" الَّذي يتبدَّد بدوره متواريًا في منطقة الغياب مفسحًا المجال للتَّواصل الكتابيّ الَّذي يتضمَّن "غياب المرسِل عن المرسَل إليه نتيجة تقويض زمكانيَّة الاتّصال". وهذا ما يقود إلى حدوث نوعٍ من الانفصام بين "قصد المؤلّف ومعنى النَّصّ". إذ بفضل الكتابة الَّتي حلَّت محلَّ الشّفاهيَّة يتحرَّر المعنى من سلطة المؤلّف ليخضع لسلطة النَّصّ، فيُداخل القصديَّةَ الذّاتيَّةَ الرَّيبةُ والشّكُّ؛ وهو ما يدفع إلى عدم التَّطابق بين ما يقصده الكاتب وما يُمكن أن يعنيه النَّصُّ المكتوب. وبذلك "تفلت وظيفة النَّصّ من الأفق المحدود الَّذي يعيشه مؤلّفه. ويصير ما يعنيه النَّصُّ الآن مهمًّا أكثر ممّا كان يعنيه المؤلّف حين كتبه" حسب تعبير "ريكور"، ولا سيَّما أنَّ النَّصّ المكتوب  – حسب كلام "بارت" – هو "نسيجٌ لأقوالٍ ناتجةٍ عن ألف بؤرةٍ من بؤر الثَّقافة" الَّتي تتناسل وتتوالد تلقائيًّا عبر النُّصوص؛ ولذلك يكاد "يختفي صوتُ المؤلف في وهاد النَّصّ وثناياه، لأنَّه يُصبح نصًّا أو جزءًا من النَّصّ"، ومن ثمَّ يُهشّم الدّالُّ رغبة المرسِل وينفلت من الرَّبط القسريّ بهذا المدلول الذَّاتيّ أو ذاك، فيُصبح العنوان علامةً سيميائيَّةً حرَّةَ التَّدليل لا ينظم اشتغالَها المعنويَّ غيرُ التَّأويل المحكوم بالسّياق؛ وبناءً عليه ينشأ القصدُ من بنية العنوان النَّصّيَّة الَّتي تُقوّض سطوة نوايا الكاتب لا من سواها. يُوفّر الحقل الدّلاليّ ترابطًا بين فضاءٍ مفهوميّ وآخر معجميّ؛ لأنَّ "الكلمات لا تكتسب دلالتها إلّا من خلال مجموع التَّقابلات الَّتي تربطها في وحدات الحقل".

الوظيفة التَّفكيكيَّة: تغيب هذه الوظيفة لدى "جينيت"؛ وهي تنبثق من علاقة القارئ بالعنوان على عكس التأثيريَّة بوصفها "آليَّةً ذات طابع تحريضيّ تنطوي على فعل القراءة". إذ بفضل العنوان يُمكن "تفكيك النَّصّ إلى بنياته الصُّغرى والكبرى قصد إعادة تركيبه من جديدٍ: نحوًا، ودلالةً، وتداولًا، من الأسفل إلى الأعلى، ومن الأعلى إلى الأسفل، ومن الدّاخل إلى الخارج".