علاقة الحداثة الشّعريَّة بالتُّراث: بين القطيعة والتَّواصل

 

د. أحمد علي شحوري

لعلَّ من أبرز القضايا الشّائكة في الشّعر العربيّ الحديث إشكاليَّةَ العلاقة ما بين الحداثة والتُّراث. وهي قضيَّة تناولها بالدّراسة كثيرون من النُّقَّاد والباحثين الأكاديميّين بطرقٍ ووجهات نظرٍ متعدّدةٍ ومتباينةٍ منطلقين من سؤالٍ مركزيّ أساسٍ: "ما العلاقة الَّتي تربط الحداثة الشّعريَّة بالتُّراث؟ أهي علاقة نفيٍ أم علاقة تكاملٍ؟".

في البدء، نُؤكّد أنَّ علاقة الحداثة الشّعريَّة بالتُّراث علاقةٌ تاريخيَّةٌ وجدليَّةٌ في آنٍ معًا؛ إذ ينبغي أن تستمدَّ الحداثة مشروعيَّتها التَّاريخيَّة والحضاريَّة من التُّراث؛ لأنَّها إذا قطعت صلاتها به أمست حداثةً مبتورةً بلا جذورٍ أو حداثةً تعيش خارج الدّورة التَّاريخيَّة للأمّة. فهي، إذًا، ليست معطًى مجرَّدًا خارج الواقع والتَّاريخ، بل صيرورة حضاريَّة وثقافيَّة ينبغي التَّعامل معها ضمن حركة تطوُّر التَّاريخ والمجتمع، وفي ضوء متطلّبات العصر، وبالقياس الى التَّجارب السَّابقة المتراكمة في التُّراث. وليس من شأن الحداثة أن تنشأ من طريق النَّقل أو التَّقليد والاستيراد، بل تنتج من تطوُّر عقليَّة الأمَّة وثقافتها تطوّرًا طبيعيًّا داخليًّا، وتنبثق من داخل بنيتها وتركيبتها الاجتماعيَّة والحضاريَّة وما تتعرَّض له من تحدّيات وصدمات وتحوُّلات على غير صعيدٍ. لذا، فهي - في المقابل - ليست معطًى خارجيًّا مع الاعتراف بالمساهمة الفعَّالة للتَّأثيرات الحضاريَّة الخارجيَّة ولعمليَّة المثاقفة المتبادلة ما بين الشُّعوب المختلفة ولا سيّما في ظلّ متاهة عصر العولمة المتسارعة في فضائنا الرّاهن.

وإذا كان التُّراث ليس مجرَّد تجارب وخبرات ومعارف ترتبط بحقبةٍ تاريخيَّةٍ سالفةٍ فحسب، بل إنَّه جزء من شخصيَّة الأمَّة ووجودها التَّاريخيّ والحضاريّ، فإنَّ علاقة الحداثة به هي علاقة اتّصالٍ واستقلالٍ في الآن نفسه، لكونه (التُّراث) ليس كتلةً واحدةً متجانسةً كي نرفضه كلَّه أو نقبله كلَّه، بل إنَّه نسيجٌ متنوّعٌ من المعارف والمواقف والتَّصوُّرات فيه ما هو سلبيٌّ متخلّفٌ متجاوَزٌ، وفيه ما هو إيجابيٌّ إنسانيٌّ وفعَّالٌ يمكن أن نُوظّفه ونفيد منه في تجاربنا المعاصرة من طريق التَّوظيف المبدع الخلَّاق؛ لأنَّ التُّراث الحقّ ليس هو كلّ الماضي أو ما صدر من الأجداد دون تحديدٍ، ولكنَّه الجانب المضيء منه الَّذي يكشف عن الظَّواهر الثَّقافيَّة والحضاريَّة الَّتي وصلت على مرّ الأجيال عبر حقبٍ زمنيَّةٍ تطوُّريَّةٍ متعدّدةٍ كانت تتجذَّر فيها وتتجدَّد وتتغيَّر بخصوبةٍ وتلقائيَّةٍ... وهو بذلك ملكٌ للأمَّة وجزءٌ من وجدانها، به نستطيع التَّعرُّف الى التَّغييرات الَّتي طرأت عليها وإلى الشُّروط الَّتي يُمكن أن تصنع فيها تاريخها أو تستمرّ في صنعه، حسب تعبير الكاتب المغربيّ "عبَّاس الجراري". لذلك فإنَّ ثمَّة كثيرًا من النَّماذج والرُّموز التّراثيَّة الَّتي تختزنها الذَّاكرة العربيَّة يُمكن اتّخاذها وسيلةً من وسائل تحقيق التَّواصل الشّعريّ الحداثيّ مع التراث، والعمل من خلالها على خلخلة سكونيَّة العقل العربيّ الاجتراريّ الاتّباعيّ.

ولعلَّ من أهم أسباب إخفاق بعض التَّجارب الشّعريَّة الحداثيَّة في التَّواصل الفعَّال مع المتلقّي العربيّ تكمن في ضعف تعاملها مع التُّراث أو تغييبه فيها أصلًا؛ فضلًا عن كون الحداثة الشّعريَّة العربيَّة لم تُؤازرها حداثةٌ في الأذهان والعقليَّات والقابليّات النَّفسيَّة، ولا في الحياة الاجتماعيَّة والمؤسَّسات الثَّقافيَّة والتَّربويَّة والسَّياسيَّة.

ولذا، لا بدَّ من الإلحاح على ضرورة أن يأخذ الشَّاعر العربيُّ الحديث في حسبانه التُّراث الثَّقافيّ المحلّيّ ولا سيَّما في جوانبه الشَّعبيَّة ورموزه التَّاريخيَّة والإنسانيَّة المشرقة؛ لأنَّ ثمَّة تجارب شعريَّة كثيرةً قد بالغت في توظيف أساطير ورموز لا تستجيب لها ذاكرة المتلقّي العربيّ المعاصر مُهمِلةً رموزَه التَّاريخيَّة والدّينيَّة والأسطوريَّة الَّتي تحظى بمردوديَّة تفاعلٍ قويّ وفعّال في ذاكرته الثَّقافيَّة والشَّعبيَّة وفي مخزونه النّفسيّ والوجدانيّ العميق.

إذ تبلورت في ساحة الشّعر العربيّ الحديث بعض الآراء والتَّجارب الَّتي تتصوَّر أو تتوهَّم أنَّ الحداثة مبتورة الوشائج بالتُّراث، وأنَّ الشَّاعر الحداثيَّ العربيَّ ليس مهيَّأً له سوى رفض كلّ ما هو تراثيّ ونبذه، وتجاوز كلّ ما ينتمي الى تجارب الأسلاف وخصوصيَّتهم ليندمج في حداثة العصر وحضارة العالم المتقدّم وفي دورة آدابه وثقافته المعاصرة.

بيد أنّه في الحقيقة، لا تكشف مثل هذه الآراء إلَّا عن قصورٍ في فهم جوهر الحداثة الشّعريَّة وعن سطحيَّة في استيعاب فلسفتها وأبعادها الكامنة، وعن جهلٍ بتجارب التُّراث في المقابل؛ وهذا ما جعل كثيرًا من النُّصوص والتَّجارب المنبثقة منها تتَّسم بالتَّجريد والشَّكليَّة وتقليد التَّجارب الغربيَّة تقليدًا سطحيًّا سلبيًّا مباشرًا، وتشكو الفقر الإبداعيّ وضحالة التَّناص مع التّراثيّ العربيّ؛ لأنَّ ثمَّة وَهْمًا يُسميه الشّاعر والنّاقد السّوريّ "أدونيس" "وَهْمَ المماثلة" يرى أصحابه ألّا حداثة خارج معايير الحداثة الغربيّة – المركز والأصل، أي لا حداثة إلَّا في التَّماثل مع الشّعر الغربيّ؛ وهو وهم معياريّ تُصبح فيه مقاييس الحداثة الغربيَّة المنبثقة من لغةٍ وتجربةٍ معيَّنتين مقاييسَ للغةٍ وتجربةٍ من طبيعةٍ مغايرةٍ حسب ما يقول أدونيس. ذلك أنَّ التُّراث الشّعريّ العربيَّ ينطوي في بعض جوانبه على تجارب إبداعيَّةٍ متميّزةٍ ولافتةٍ كانت حداثيَّةً في زمانها يُمكن الإفادة منها في إثراء حداثتنا الرَّاهنة، فضلًا عمَّا يُمكن أن يُقدّمه من أدواتٍ وإمكاناتٍ لغويَّةٍ إيقاعيَّةٍ مفتوحةٍ لا غنًى للشّاعر المعاصر عنها؛ لأنَّه لا يُمكنه أن يكون حداثيًّا حقًّا قادرًا على تجاوز تجارب السَّلف واقتراح بدائل منها إذا لم يكن على اطّلاعٍ واسعٍ على تراث أمَّته ومخزونها الشّعبيّ.

وقد تُثَار هنا مسألة المراهنة على العالميَّة. ولكن يجب أن يكون حرصنا على المحلّيّة والتَّميُّز منطلقًا ومعبرًا أصيلًا إلى حرصنا على العالميَّة؛ لأنَّ كثيرًا من الأدباء الكبار إنَّما وصلوا إلى مستوى العالميَّة من خلال قضايا ورموز محلّيّة (لوركا، نيرودا، درويش... على سبيل المثال لا الحصر).

وفي جميع الحالات، إذًا، يتبيَّن أنَّ المهمّ في توظيف التُّراث ليس تزيين النُّصوص بالرُّموز والعناصر التَّراثيَّة المقحمة من خارج السّياق الثّقافيّ، بل بالقدرة على ربطها بروح العصر وتوظيفها توظيفًا إبداعيًّا فعَّالًا ضمن رؤيا شعريَّة حداثيَّة جديدة. وهذا هو الرّهان الحقيقيّ للحداثة العربيَّة.